بدأت الأمور منذ اللحظة الأولى أمس غريبة – لكن هادئة، في المكتب البيضاوي.
وفي لحظة واحدة حدث التصعيد الذي بدا مخططاً ولهذا اسبابه، ومن أهم الاسباب تلك ان الرئيس ترامب بدا وكأنه يريد اقناع الامريكيين بتوجهاته الجديدة – تجاه اوروبا وروسيا وبقية العالم، وتجاه اوكرانيا أيضاً..فالغالبية العظمى في الولايات المتحدة تسمع منذ ثلاث سنوات وبشكل مستمر تبريرات قوية لدعم ومساعدة اوكرانيا „ مجاناً „ ، ويريد كثير منهم – ربما – لأسباب دعائية وعاطفية بالدرجة الاولى الاستمرار في تقديم تلك المساعدات، لكن ترامب لايرى ان الاستمرار في تقديم الدعم والمساعدات العسكرية لأي طرف „ مجاناً „ أمر يتفق مع المصالح الامريكية „ الجديدة” ويرغب في تغيير ذلك، بل واتفق على ايقاف الدعم العسكري لأوكرانيا – مقابل صفقة ما – مع الرئيس بوتين ..
سارت المحادثة منذ البداية مع زيلينسكي وفقًا للنص المتفق عليه بين الرئيس ترامب ونائبه في البيت الأبيض وكأنها كانت مخططة تمامًا بهذا الشكل غير المعتاد .. فالصحافة كانت حاضرة أثناء المحادثات طيلة الوقت. وكانت الكاميرات تنقل كل ما يدور للعالم كله وهذا أمر لم يعتاده الصحفيون في أي مكان، حيث جرت العادة على ان جلسة التصوير الأولى تستغرق خلال مثل هذه الزيارات دقيقتين أو ثلاث دقائق على الأكثر، يتم خلالها مصافحة وتبادل المجاملات. وبعد ذلك، يغادر الصحفيون الغرفة وتبدأ المحادثات خلف الأبواب المغلقة…ما حدث بالأمس كان أمراً مختلفاً تماما..
ما حدث كان عملاً من أعمال الدعاية المفتوحة، وكان الجمهور المستهدف من العرض بأكمله هو الجمهور الأمريكي بالدرجة الأولى – ثم اوروبا وبقية العالم من بعده . كان الهدف هو أيضاً عرض وتبرير السياسة الأمريكية الجديدة، واقناع الناخب الأمريكي بأن اوكرانيا لا تستحق الدعم الأميركي المجاني، ويجب ان تدفع ثمن كل ماحصلت عليه، كذلك فلا يجب الاستمرار في دعم „ دكتاتور „ في اوكرانيا لا يريد السلام مع جيرانه…
استهدف الرئيس ترامب من البداية استفزاز زيلينسكي ، ليتم طرده في النهاية ، من أجل ذلك كان من المفترض أن ينتهي الأمر بصدام، بشرط الا يبدأ هذا الصدام الا بعد استدراج زيلينسكي لخطأ ما..أراد الرئيس ترامب ونائب الرئيس فانس الايحاء بداية بانهما على علاقة طيبة بزيلينسكي، قبل الايقاع به.. فجاءت قضية ملابس زيلينسكي في البداية، ومهد الرئيس بصوت مشحون وهو يعرض وجهة نظره في الحرب الدائرة والمعونات العسكرية … ثم سحب جي دي فانس البساط بشكل كامل، واستغل ترامب ذلك، ليصعّد من الأمر برمته. ليخرج الصحفيون في النهاية بتقارير تقول ان الولايات المتحدة بذلت جهداً كبيرًا حسبما رأي العالم كله، لكن زيلينسكي جاحد، ولا يريد حتى الامتنان بما قدمنا، ولا يريد السلام ، لانه وزمرته مستفيدون من استمرار الحرب وتقديم المساعدات.
كان أمام زيلينسكي خيارين. إما أن يجلس ويوافق على كل طلبات الولايات المتحدة، بل ويستقيل من منصبه حين يُطلب منه ذلك او يرفض ويتحمل تبعات ما سيحدث ..وقرر الرفض
النقطة المحورية التي اراد الرئيس ترامب كشفها هي ان هناك بالفعل صفقة مع روسيا، ما هي حدود تلك الصفقة؟ هذا ما تتوق اوروبا كلها لمعرفته ..فهم في النهاية من سيدفعون تكاليف تبني الحكومة الأميركية للموقف الروسي،، وهي تكاليف لا تستطيع اوروبا تحملها، فجزء منها يتعلق بالدفاع الامريكي عنها وقت الضرورة، ولا أحد في اوروبا يريد المغامرة بأمنه مقابل الوقوف الى جانب اوكرانيا في حرب خاسرة .
تسعى الولايات المتحدة الآن – في عهد ترامب – إلى تحقيق مصالح مختلفة تمامًا ,اكبر كثيراً عما كانت تريده في عهد الحكومة السابقة ، بل وتختلف مصالحها في اوروبا عن تلك التي تسعى أوكرانيا لتحقيقها، كذلك لدى واشنطن قناعة بأن لا أحد سيخرج منتصراً في أي حرب مع روسيا، والاتصالات مع بوتين بينت عدم وجود خلافات عميقة في سيناريوا تبادل المصالح، ولذا بدت عملية التضحية باوكرانيا أسهل الحلول .
من وجهة نظر الرئيس -٠ التاجر – ترامب – منذ زمن وليس الآن فقط – ان استسلام زيلينسكي وتسليم أوكرانيا للرئيس بوتين يقلص من حجم الخسائر ويعظم من المكاسب والارباح لواشنطن وموسكو معاً، فالرئيس ترامب تبنى الموقف الروسي منذ وقت مبكر بكثير حتى قبل حملته الانتخابية الاخيرة، بل وصرح انه لم يقبل بالمحادثة الهاتفية قبل أسبوعين مع زيلينسكي الا بعد ان اقتنع أن أوكرانيا سوف تضطر إلى التنازل عن أراضٍ دون مفاوضات، وأن عليها ان تنسى عضوية حلف شمال الأطلسي، وأن الولايات المتحدة لن تقدم أي ضمانات أمنية. هذا ما فعله الرئيس ترامب، وبذا يكون حقيقة قد قطع شوطا طويلا قبل لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين – باعتبار ذلك نقطة ضرورية في „ منتصف الطريق” .الذي لم يتحرك الرئيس بوتين متراً وأحداً فيه حتى الآن، غير ليس ضرورياً بالنسبة للرئيس بوتين التقدم خطوة واحدة في طريق التنازلات، لقناعته بأن الرئيس ترامب يعلم انه لن يحصل على جرام واحد من المواد الخام في اوكرانيا دون موافقته، والآن لم يعد الأمر يتعلق امام زيلينسكي بتجميد الأعمال العدائية على الجبهة، بل بانسحاب القوات الأوكرانية الى داخل اراضيها، وتحديداً الى المناطق التي لا ينتوي الرئيس بوتين ضمها، فليس هناك ضمانات أمنية أطلسية أو أوروبية حقيقية في غياب الضمانات الامنية الامريكية ، ولا أحد في اوروبا لديه اكثر من الكلام ليعطيه لأوكرانيا، وكل ما سيُعطى لاوكرانيا من اي طرف سيكون بمثابة قروض وليس منحاً لا ترد. وبذا تكون اوكرانيا قد خسرت كل شيء
في عام 2021 وقبل ثلاثة شهور من بدء الحرب قدم الكرملين لحلف الناتو ورقة ووثائقاً تتضمن مطالب روسيا لحلف شمال الأطلسي، والتي كان منها انسحاب الناتو من أوروبا الشرقية، وخروج جميع القوات الاطلسية العسكرية وشبه العسكرية، وتفكيك البنية التحتية الهجومية والدفاعية بأكملها منها مع ضرورة انسحاب الولايات المتحدة بشكل كامل من أوروبا الشرقية واسقاط عضوية دول اوروبا الشرقية في الناتو..لم يكن الرئيس بوتين يقدم مثل تلك المطالب الا وهو يعلم تماماً انها مطالب قانونية وفقاً لاتفاق 2+4 الموقع عام 1990، بل وكان بوتين – مثلما علم الجميع- قد أعلم المستشارة الالمانية السابقة انجيلا ميركل قبل اعوام ما معناه انه وحده الذي يفرمل الجيش الروسي من تنفيذ الاتفاق مع الناتو بالقوة ..وانه لا يستطيع الاستمرار في ذلك الى الابد …..وهذا كله يعلمه ترامب
الرئيس ترامب يريد جزءً من المواد الخام التي باتت قاب قوسين او ادنى تحت السيطرة الروسية بالكامل، ، وهو يدرك أنه لا يملك أي نفوذ على بوتين الذي سيحصل على كل ما يريد من أراض اوكرانيا وغيرها ان عاجلاً او آجلاً، ولذا فالحل الوحيد هو ممارسة الضغط على زيلينسكي ، وصولاً الى التخلص منه ومن مجموعته، واقناع بويتن بانه صاحب فضل في تسريع وصوله لمآربه ليس فقط في اوكرانيا بل ولاحقاً أيضاً في شرق اوروبا. وبهذا يكسب الطرفان.